من روائع الأدب العربي : عتاب المتنبي لسيف الدولة الحمداني

صدى الحقيقة : متابعات

 الشاعر ( المتنبي ) : 

المتنبي أحد فحول الشعراء في العصر العباسي الثاني، حيث تلقى العلم والأدب في مدرسة الكوفة، وواظب على مجالس العلماء وانتقل بين القبائل في البادية، وحفظ كثيرا من الشعر وكانت له مدائح كثيرة في سيف الدولة الحمداني تعرف بالسيفيات. ولما فسدت العلاقة بينهما، رحل إلى مصر يمدح كافورا الإخشيدي ولكنه لم يجد عنده ما كان يتوقعه ، فهجاه ورحل إلى بلاد فارس وعند عودته مر على أحد الأعراب الذين هجاهم، ودارت بينهما معركة قتل فيها المتنبي بعد أن هم بالفرار فثبته غلامه بقوله ألست القائل: 
الخيل والليل والبيداء تعرفني والسيف والرمح والقرطاس والقلم 
فثبت وقاتل حتى قتل عام 354 هـ

مناسبة القصيدة :
كان المتنبي يتمتع بمكانة عند سيف الدولة فترة طويلة، ولكن حساده حسدوا عليه مكانته ووشوا به عند سيف الدولة حتى فسدت العلاقة بينهما، فأخذ يعاتب صديقه سيف الدولة قبل أن يرحل إلى مصر بهذه القصيدة. 

 

القصيدة:

واحـر قلــــباه ممــن قلبــه شبــم **** ومن بجسمـي وحـالي عنده سقـم

مـــا لـي أكتم حبا قد برى جسدي **** وتدعي حب سيف الدولة الأمم

إن كــــان يجمعــنا حب لغرتــه **** فليت أنا بقدر الحــــب نقتســـم

قد زرته و سيوف الهند مغمـــدة **** وقد نظرت إليه و السيـوف دم

فكان أحسن خلــــق الله كلهـــم **** وكـان أحسن مافي الأحسن الشيم

فوت العــدو الذي يممـــته ظفر **** في طــيه أسف في طـــيه نعــــم

قد ناب عنك شديد الخوف واصطنعت **** لك المهابــــــة مالا تصنع البهم

ألزمت نفسك شيــــئا ليس يلزمها ****أن لا يواريـهم بحر و لا علم

أكلــما رمت جــيشا فانثنى هربا **** تصرفت بك في آثاره الهمــم

عليك هــــزمهم في كل معتـرك **** و ما عليــك بهم عار إذا انهزموا

أما ترى ظفرا حلوا سوى ظفر**** تصافحت فيه بيض الهندو اللمم

يا أعدل الناس إلا في معــاملتي **** فيك الخصام و أنت الخصم والحكم

أعيذها نظـــرات منك صادقـــة **** أن تحسب الشحم فيمن شحمه ورم

وما انتفاع اخي الدنيا بناظـــره ****إذا استـــوت عنده الأنوار و الظلم

سيعلـم الجمع ممن ضم مجلسنا **** باننــي خير من تسعى به قـــــدم

انا الذي نظر العمى إلى ادبــي **** و أسمعـت كلماتي من به صمــم

انام ملء جفوني عن شواردها **** ويسهر الخلق جراها و يختصم

و جـــاهل مده في جهله ضحكي **** حتى اتتــــه يــد فراســة و فم

إذا رايـــت نيوب الليــث بارزة **** فلا تظنـــن ان الليــث يبتســم

و مهجـة مهجتي من هم صاحبها **** أدركتـــه بجواد ظهره حـــرم

رجلاه في الركض رجل و اليدان يد **** وفعلـــه ماتريد الكف والقدم

ومرهف سرت بين الجحفليـــن به **** حتى ضربت و موج الموت يلتطم

الخيل والليل والبيــداء تعرفنــــي **** والسيف والرمح والقرطاس و القلم

صحبـت في الفلوات الوحش منفردا ****حتى تعجـــب مني القور و الأكــم

يــــا من يعز عليـــنا ان نفارقهـــم **** وجداننـا كل شيء بعدكم عــدم

مــا كان أخلقــنا منكم بتكـــرمة **** لـو ان أمــركم من أمرنـا أمــم

إن كــان سركـم ما قال حاسدنا **** فما لجـــرح إذا أرضاكـــم ألــم

و بينــنا لو رعيتم ذاك معرفــة **** غن المعـارف في اهل النهـى ذمم

كم تطلبـــون لنا عيبـا فيعجزكم **** و يكره الله ما تأتون والكــرم

ما أبعد العيب و النقصان عن شرفي **** أنا الثـــريا و ذان الشيب و الهرم

ليـت الغمام الذي عندي صواعقه **** يزيلهـن إلى من عنـده الديــم

أرى النوى تقتضينني كل مرحلة **** لا تستقـل بها الوخادة الرسـم

لئن تركـن ضميرا عن ميامننا **** ليحدثن لمـن ودعتهــم نـدم

إذا ترحلت عن قـوم و قد قـدروا **** أن لا تفارقهم فالـراحلون هــم

شــر البلاد مكان لا صــديق بــه **** و شر ما يكسب الإنسان ما يصم

و شـر ما قنصته راحتي قنص **** شبه البزاة سواء فيه و الرخم

بأي لفظ تقـول الشعــر زعنفة **** تجـوز عندك لا عــرب ولا عجم

هذا عـتابـك إلا أنـه مقـة **** قـد ضمـن الدر إلا أنه كلم  

 

 * تحليل النص :

1- واحر قلباه ممن قلبه شـبم ومن بجسمي وحالي عنده سقم

• مفردات :
1- حر: لهب ونار. 
2- شبم: بارد. 
3- سقم: مرض 

• شرح :
يندب الشاعر حظه لأنه يحب الأمير والأمير يقسو عليه ولا يشعر بما يشعر به، وهذا الحب أصاب الشاعر بالضعف والهزال.

• بلاغة :
حر قلبا: استعارة مكنية حيث شبه الحزن في قلبه بنار تحرق وفيها تجسيم وتوضيح للمعنى برسم صوره له 
والمحسن البديعي في ( حر - شبم ) نوعه طباق يبرز المعنى ويوضحه بالتضاد.

• الأسلوب : 
( واحر قلباه ) إنشائي، غرضه إظهار الحزن والألم واللوعة.
2- مالي أكتم حباً قد برى جسدي وتدعى حب سيف الدولة الأمم 
• مفردات: 
1- أكتم: أبالغ في كتمان حبي.
2- برى جسدي: أضعفه وأضناه.
• شرح :
يتعجب الشاعر من نفسه حيث يكن هذا الحب في قلبه للأمير حتى أضعف جسده ، والمنافقون يدعون حبهم للأمير.
• بلاغة : 
أكتم حبا: كناية عن شدة الحب وكثرته.
" حبا قد برى جسدي " استعارة مكنية شبه هذا الحب بالمرض.
وبين الشطرين مقابلة توضح حبه وادعاء المنافقين.
3- إن كان يجمعنا حب لغرته فليت أنا بقدر الحب نقتسم 
• مفردات :
1- غرته: الغرة بياض في الجبهة والمراد سيف الدولة وجمعها غرر 
• شرح : 
ويوضح الشاعر أنه إذا كان موضع الالتقاء بينه وبين غيره هو حب سيف الدولة فليت أننا نقتسم عطاياه واهتمامه بقدر هذا الـحب ( ويريد أنه سيكون أكثر حظا )
• بلاغة : 
غرته: مجاز مرسل علاقته الجزئية توحي بالجمال إن: تفيد الشك 
الأسلوب: ليت أنا... أسلوب إنشائي تمنى غرضه إظهار الحسرة واللوم.
4- يا أعدل الناس إلا في معاملتي فيك الخصام وأنت الخصم والحكم 
• مفردات :
1- الخصام : النزاع بين المتنبي وخصومه . 
2- الحكم: القاضي . 
• شرح :
المتنبي يعاتب سيف الدولة عتاب المحب فيصفه بالعدل مع الجميع إلا معه لأن النزاع والخصام الذي بينهما هو طرف فيه؛ فأصبح سيف الدولة بذلك هو الخصم والحكم، ومن ثم لن يحكم لصالح خصمه المتنبي.
• بلاغة : 
( يا أعدل الناس ) نداء غرضه العتاب
( فيك الخصام ) أسلوب قصر طريقته تقديم الخبر شبه الجملة على المبتدأ المعرفة للتخصيص 
(بين الخصم و الحكم) طباق يؤكد المعنى.
5- أعيذها نظرات منك صائبة أن تحسب الشحم فيمن شحمه ورم 
• مفردات : 
1-أعيذها: أحصنها وأنزهها.
2- صائبة: صحيحة وصادقة.
3-الشحم: السمنة 
4- تحسب: تظن، 
5- ورم: انتفاخ الجسم بسبب المرض.
• شرح : 
ويناشده بألا ينخدع بالمنافقين فيكون مثله كمثل الذي يرى المنفوخ فيحسبه قوي العضلات.ويبين له أن الذي لا يميز بين النور والظلام لم ينتفع بعينيه ، ويقصد بالنور من يحبه حبا حقيقيا وبالظلام من ينافقه ويدعي حبه ، فهو يريد أن ينبه سيف الدولة لحبه في عتاب رقيق .
• بلاغة :
( أن تحسب الشحم فيمن شحمه ورم ) تشبيه ضمني - فهم من البيت دون تصريح به فقد شبه من يخطئ في رأيه كمن يرى ورم الإنسان فيحسبه شحما وقوة، سر جماله: توضيح الفكرة، ويوحي بظلم سيف الدولة، الطباق يبين ( شحم - ورم ) يوضح المعنى بالتضاد ويؤكده.
6- وما انتفاع أخي الدنيا بناظره إذا استوت عنده الأنوار والظلم 
• مفردات : 
1- أخي الدنيا: المراد الإنسان.
2- ناظره: بصره أو عينيه، 
4-الظلم:تساوت. 
4-الظلم : جمع ظلمة - الظلام .
• الشرح :
يبين الشاعر أن الإنسان إذا تساوى عنده النور والظلام، فهو لم ينتفع بعينيه. ويقصد بذلك أن سيف الدولة إذا لم يستطع أن يميز بين من يحبه حبا صادقا ومن يحبه حبا لمصلحة أو نفاق فإن مثله كمثل من لم ينتفع بعينيه فلم يميز بين النور والظلام . 
• بلاغة : 
(ما انتفاع أخي الدنيا بناظره) استفهام غرضه النفي - وهذا البيت للعتاب وليس للهجاء كما يتبادر إلى الذهن. 
(إذا) تدل على التحقيق من أن الأمير صار لا يميز بين الصديق والعدو.
أخي الدنيا: كناية عن الإنسان. 
بين الأنوار والظلم: طباق يؤكد المعنى.
" فخر بالشعر والشجاعة معاً "
7-أنا الذي نظر الأعمى إلي أدبـي وأسمعت كلماتي من به صمم 
8-فالخليل والليل والبيداء تعرفـني والسيف والرمح والقرطاس والقلم 
• مفردات :
1-أدبي: الأدب، وهو: الجيد من الشعر والنثر، والجمع: آداب.
2-الأعمى: فاقد البصر - أعمى عميان.
3- صمم: فقدان السمع.
4-البيداء : الصحراء ، وتجمع على بيد .
5-القرطاس : الورق الذي يكتب عليه .
• شرح :
يفخر الشاعر في البيتين بأدبه الذي عم الآفاق، حتى أن الأعمى نظر إليه فجعله مبصرا وكلماته سمعها الأصم فجعلته سميعاً : كما يفتخر بشجاعته وفروسيته ومهارته القتالية، فهو فارس تعرفه الخيل يقتحم الصحراء في الليل المظلم ومقاتل بارع في استعمال السيف والرمح 
• بلاغة : 
( أنا الذي... أدبي ) أسلوب خبري غرضه الفخر وأتى بالضمير (أنا) ليدل على ذلك و التعبير كناية عن قدرته الأدبية وسر جماله الإتيان بالمعنى مصحوباً بالدليل عليه في إيجاز وتجسيم ومبالغة 
( وأسمعت كلماتي من به صمم ) كناية عن قوة تأثير شعره حتى أسمع الأصم 
وبين ( نظر × أعمى ) طباق ( أسمعت × صمم ) يؤكد المعنى بالتضاد 
( الخيل والليل ..الخ ) أسلوب خبري للفخر ،
بين الخيل و الليل : جناس ناقص - له أثره الموسيقى في تحريك الذهن ،
والبيت كله كناية .وبين:عته وقوته .
وبين : القرطاس والقلم مراعاة نظير وهو ( ذكر الشيء وما يلازمه ) وهذا البيت كما يقول النقاد هو الذي قتل صاحبه . 
الخيل والليل والبيداء تعرفني:شبه الخيل والليل بإنسان يعرف على سبيل الاستعارة المكنية.
" اعتزاز وحكمة "
9- يا من يعز علينا أن نفارقهم وجداننا كل شيء بعدكم عدم 
• مفردات: 
1- يعز: يصعب ويشق ومقابلها: يهون ،
2- وجداننا : إدراكنا ،
3- عدم : لا قيمة له 
• الشرح :
يبين الشاعر أنه يعز عليه فراق الأمير لأنه يحب الأمير و لا قيمة لشيء بعدهم
• بلاغة : 
( يا من يعز علينا أن نفارقهم ) أسلوب إنشائي نوعه نداء ، غرضه إظهار الحب والعتاب ( وجداننا كل شيء بعدكم عدم ) تعبير يدل على مكانة الأمير في قلب الشاعر ، وجداننا × عدم : بينهما طباق .
10- إذا ترحلت عن قوم وقد قدروا ألا تفارقهم فالراحلون هم 
• مفردات :
ترحلت : رحلت ، قدروا : استطاعوا ، الراحلون هم : الخاسرون هم.
• الشرح :
وبين أنه لن يخسر شيئاً بهذا الرحيل، لكن الخاسرين هم الذين قصروا في حقه وكان يمكنهم إرضاؤه ومنعه من الرحيل ( وربما يقصد أن خسارتهم تكون في حرمانهم من شعر المدح الذي يخلد ذكرهم على مر السنين ).
• بلاغة:
( إذا ترحلت ) إذا - أداة شرط تفيد التحقيق وتؤكد الخسارة المؤكدة لأصحابه الذين تسببوا في رحيله ، قد للتوكيد ، ( ترحلت × ألا تفارقهم ) بينهما طباق يوضع المعنى بالتضاد .
11- شــر البلاد مكان لا صديق بــه وشـر ما يكسب الإنسان مـا يصـم 
12- هذا عـتابـك إلا أنـه مقـةٌ قـد ضمـن الـدر إلا أنـه كـلمٌ 
• مفردات: 
1- شر : أسوأ 
2- يكسب : يفعل وينال ،
3- يصم : يعيب ، 
4- مقة: محبة - وهو مصدر ( ومق ) ،
5- كلم : المفرد كلمة .
• الشرح : 
وإن شر البلاد مكان لا يوجد فيه صديق، وأقبح الأعمال ما يجلب لصاحبه المعرة، ويعلن أنه محب لسيف الدولة وهذا الحب هو الدافع للعتاب الذي ضُمِّنَ جواهر الكلام.
• بلاغة : 
( شر البلاد......... ) أسلوب خبري غرضه إظهار الضيق والألم، ( مكان ) نكرة تفيد العموم، ( يكسب × يصم ) بينهما طباق يوضح المعنى بالتضاد - وهذا البيت والبيت السابق يجريان مجرى الحكمة.
(ضمن الدر ) الدر استعارة تصريحيه حيث شبه كلماته بالدر وحذف المشبه وصرح بالمشبه به - سر جماله التجسيم، وتوحي ببلاغة الشاعر وحبه للأمير.
* التعليق على القصيدة :
• الغرض الشعري : 
العتاب والفخر - وهما من الأغراض القديمة ، ومما يميز المتنبي أنه لا ينسى نفسه في عتابه أو مدحه فهو ينتهز الفرصة ليفخر بشجاعته وأدبه .
• ملامح شخصية المتنبي :
1- أنه شاعر عبقري متمكن من وسائل الشعر. 
2- واسع الثقافة. 
3- فارس طموح. 
4- قوى الشخصية معتز بنفسه حريص على كرامته .
5- يمتاز بوفائه لسيف الدولة.
• الخصائص فنية لأسلوب المتنبي :
1- قوة الألفاظ وجزالة العبارة. 
2- روعة الصور ومزج الأفكار
3- عمق المعاني وترابطها والاعتماد على التحليل والتعليل.
4- الاستعانة بالمحسنات غير المتكلفة.
• أثر البيئة في النص:
1- التفاف الشعراء حول سيف الدولة والتنافس بينهم.
2- ظهور الدويلات في العصر العباسي كدولة الحمدانيين في حلب.
3- استخدام الخيل والسيف والرمح في الحرب والقرطاس والقلم في الكتابة.
4- استخدام الدر و اللؤلؤ في الزينة.