جريمة التجهيل

جلس بجانبي في وسيلة المواصلات شاب ريفي نحيف يبدو أنه في العشرين من عمره مددت له كتيب التوعية من خطر المخدرات كغيره من الركاب وكعادتي حين أقوم بتوزيع الكتيبات لنشر التوعية في كل مكان ولكل شخص في المجتمع ..

كان الكل يمسكون الكتيب ويقرأون ما فيه من إرشادات , بينما هو كان يقلبه حتى أمسكه بالمقلوب وهو ينظر إلى الشاب الذي كان في الكرسي الذي على يمينه ..

وبالنسبة لي أنا أحسست بشيء من الشفقة والقهر عليه وعلى أمثاله من الشباب الذين لم تساعدهم ظروفهم المعيشية ولم تحثّهم أسرهم على الذهاب للمدرسة أو تسعى إلى تعليمهم مبادئ القراءة والكتابة في المنزل أو في أقرب مسجد أو كُتّاب ( معلامة )
أثّر بي كثيراّ حاله ولكنني تمالكت نفسي وفتحت معه باب الحوار وسألته :
ألا تجيد القراءة ؟
قال : لا
قلت له : من أين أنت ؟
أجاب : من إحدى قرى الصبيحة
وسألته : لماذا لم تذهب إلى المدرسة ؟
رد هو : لا توجد مدرسة في قريتنا ولا في القرى المجاورة لنا .
فقلت له : هل كنت تريد أن تتعلم ؟
قال : نعم . ولكن لست وحدي من لم يتعلم فكثير من شباب قريتنا والقرى المجاورة لنا لا يجيدون القراءة والكتابة ولم يلتحقوا بالمدارس .
فبدأت أعمل على تشجيعه وقلت له : بإمكانك أن تتعلم فهل في أسرتك من يجيد القراءة ؟
قال : نعم واحد من أخوتي هو الوحيد الذي تعلم .
شجعته وقلت له : إشتري دفتراً وقلماً وأطلب من أخيك هذا أن يبدأ بتعليمك حروف اللغة كتابة وقراءة ويعلمك كيف تقرأ القرآن .. حتى تستطيع قراءة أي كتاب أو جريدة وهذا الكتيب احتفظ به وعندما تجيد القراءة إبدأ بقراءته . ففيه إرشادات مفيدة لك ولكل الشباب من خطر المخدرات وتابعت الحديث معه أشرح له ما جاء في الكتيب حول المخدرات وأخطارها وكيفية الوقاية منها وكذلك التخلص منها والعلاج من أضرارها .. وكان يستمع محاولاً أن يفهم ويستوعب كل معلومة قلتها له ..

أما أنا فعندما تصادفني امرأة أو رجل كبير لا تقرأ أو لا يقرأ يكون تأثري عليهم بسيطاً لكن عندما أصادف شاباً أو مراهقاً سواء فتاة أو شاب فتأثير ذلك عليّ يكون قاسياً ومؤلماً .
كيف سقطوا منّا هؤلاء ولم يدركوا قطار التعليم ؟ ومن المسؤول عن ذلك ؟
الدولة ؟ أم الأسرة أو الفقر ؟
وأدركت أن الدولة وحكوماتها وسلطاتها التي كانت ولازالت إلى اليوم تحكمنا هي دولة فاشلة وحقيرة بكل معنى الكلمة فقد تعمّدت تجهيل أبنائنا مع سبق الإصرار والترصد حتى تجعل منهم فرائس سهلة لشياطين الجماعات الظلامية وشياطين تجارة المخدرات .
قد يكون ذلك الشاب نموذجاً واحداً لشريحة واسعة من الأميين لكن من المؤكد أن هناك نماذج كثيرة لشرائح أخرى من الجهلة والأميين لأسباب مختلفة في بلادنا التي كانت إلى العام 1985 نسبة الأمية فيها ( صفر ) .
لكن كذلك هذا المجتمع وسكانه من الأسر وأئمة المساجد والتربويين مشاركين في هذه الجريمة لصمتهم على جريمة سياسة تجهيل هذا الجيل من أبنائهم وبناتهم أو مشاركتهم في تطبيقها .
واليوم أصبح واجباً حتمياً على كل شخص نال حقه في التعليم أن يتحمل مسؤولية تعليم شخص واحد على الأقل حُرم أو تكاسل عن التعليم خصوصاً في المدن والقرى والمناطق النائية والفقيرة من المحافظات الجنوبية .
فبالتعليم والتعليم وحده نستطيع بناء دولة حضارية عمادها شباب متسلح بالعلم لا بالجهل وممارسة سلوكيات القتل والبلطجة وتعاطي المخدرات وفرض أحكام مخالفة لكل الشرائع والأديان السماوية على عباد الله .. ولازال أمام كل إنسان فرصة للتعليم مهما بلغ من العمر تطبيقاً لنهج سيد الرسل عليه أفضل الصلاة والسلام بطلب العلم من المهد إلى اللحد وطلب العلم ولو في الصين.