رواية “ذاكرة جدار الإعدام”.. جدلية الأنا والآخر

صدى الحقيقة : متابعات

يقول محمود درويش:

 

القهوة كالحب 

قليلٌ منه لا يَروي 

وكثيرٌ منه لا يُشبِع…

وكالقهوة والحب هو خالد أخازي وإبداعه، يخاتلك ويراوغك فلا تمتلك إلا إعادة القراءة لفك العبوات المنتشرة بين أسطر النص، رشيق كالغزال في القفز على خطوط السرد وعدم وضع رقبة الراوي تحت مقصلة رؤية أحادية، خالد لديه ذائقة نظيفة وذاكرة مخيفة ولغة تغطي اللعنتين معاً، تلك ببساطة حكاية ذاكرة جدار الإعدام.

يوحى إليك من خلال العتبة النصية” ذاكرة جدار الإعدام” أنَّ جريمة وقعت وأن الدم يغطي الحائط كدليل وأن السارد يحفظ القضية كي لا يؤيدها التاريخ ضَّد مجهول. وهذا الوحي هو قراءة عميقة بعين المتربص العارف بكيفية رؤية الروائي للعالم.

خالد أخازي يجمع في سالم الزموري حلم جيل أو جيلين مغربيين عاشوا مرحلة الصراع الثقافي الوطني_الكولونيالي بأشدِّ معاركه قهراً حين كان يتدرب المقتول على التنفس في زنزانة القاتل ، حيث يكون القاتل شيطاناً يكتب كتاباً مقدساً يسمى الثورة الفرنسية.

وبين الثائر الفرنسي الذي يحتلك باسم حقوق الانسان فيتحالف مع أعتى القوى الرجعية في بلدك كي يخون الثائر قيمه في الدولة التي احتلها بعد أن قطع رؤوس الثائرين في ساحات باريس والثائر المنظر بفلسفة الوجودية يناضل الزموري مشكلاً الوعي الوطني الحقيقي الذي يصلح أن يكون وعي ثورة نظيفة بعيداً عن الملابس النظيفة، فعادةً ما تكون ثياب الثوار الحقيقين في العالم متشرفة بالتراب الوطني ودم الضحايا.

يقف سالم الزموري بين جيل فرنسا الثائر وجيل فرنسا الحائر ليرصد التحول الاجتماعي العميق الذي حدث في أوروبا بعد عقدين على الحرب العالمية الثانية، وتجلي مفاهيم الجمهورية الثانية وتآكل مفاهيم وطنية وقومية وفلسفية في تلك المرحلة.

ضرب أخازي تحت الحزام في طرحه لعدة أفكار في النص بطريقة مغايرة للسائد الروائي، فلم يتعامل مع الغرب بمنطق الجنوب المقهور ولا بمنطق الشرق ” مجروح النرجسية” إنما عمل على أنسنة القضية الوطنية وإبعادها عن الطرح الشعبوي الديماغوجي، لتصبح الثورة المغربية على المحتل الفرنسي ترقى أن تكون نموذجاً ثورياً لثورات التحرر الوطني في العالم، حيث خرج الطرح عن الكيدية ليبرز الثورة كعمل عظيم حاول القوى الرجعية قمعه بذاكرته وذلك من خلال إسقاط رهيب لحدث فقدان سالم الزموري الذاكرة لفترة مؤقتة.

أخازي صاحب طرح فريد أيضاً فيما يخص منطق الثورة البعيدة عن الاسترجال، والعنفوان المؤقت والانفعال الآني، فثورة المغاربة كانت ثورة شعب على ذاته الواهنة وقواه الرجعية فلم يكن والد البطل “خليفة القايد” سوى رجعية مجتمع يتعاون من الأجنبي الدخيل على حساب الوطني الدخيل ولم تكن دومينيك سوى مؤشر على عبثية حلم الأجنبي بوطن بديل، ففي العمق الفني كان خالد أخازي يرمي بذخيرة حية في إسقاطاته الذي قد تخاتل القارئ العادي فيراها حكاية تحرر وطني فقط ولكن القارئ الصياد سيفكك مدلولها واحترافية الاسقاط.

أخازي أوقف القارئ على رؤوس أصابع قلبه، فتعامل مع الحبكة بطريقة مواربة وكأن هناك قوى تخرج من هوامش النص لتقتحم فضاء الرواية دون وجود مجاني لأي شخصية ومن يعتقد أنه يستطيع أن يسقط صفحة من صفحات ذاكرة جدار الإعدام فبتقديري أنه يغامر بحصان خاسر.

فنياً تعامل أخازي مع النص بمنطق احترافي وحبكة نمطية توحي للقارئ بواقعية مفرطة تحيله أن يتخيل أنه سيرى أحد أجداده في طرقات النص، أو سيرى مدينته القديمة أو شجرة يعرفها ولاتزال خضراء إلى اليوم، فلعبة أخازي بالإيهام بالواقعية كانت شديدة النجاح لجهة شدّ القارئ لجدار الإعدام الذي سيشهد على حدثه كشاهد زور.

قضية حساسة أخرى طرحها أخازي في النص متعلقة بجدلية الأنا والآخر، ولكنه طرحها بصورة مغايرة لما تمَّ تداوله في الرواية العربية والمفكرين والنقاد العرب كفيصل دراج وإدوارد سعيد وجورج طرابيشي أو كالطيب صالح في موسم الهجرة إلى الشمال وذلك من خلال دومينيك الشيوعية الفرنسية التي النسبتين معاً وترحل وراء عاشق مصري إلى الإسكندرية تاركةً حلم سالم “الذكوري المغربي” بسرير أوروبي أنثوي دافئ في حالة موت سريري. وهنا تكمن حرفية عالية عند أخازي بتصفير قوى سالم الزموري .

سالم العنيد طرده أخازي بكرت أحمر من جميع مفاصل العمل ولكن سالم كان يغافل حرس الملعب ويعود بقوة قاهرة للنص لينتصر في النص ويكون صاحب الهدف الفصل في الوقت بدل الضائع، حيث كانت الثورة الذي كان الزموري مشاركاً فيها بقوة من منفاه الداخلي من عمق الصحراء في إشارة لعمق الروح الوطنية في انطلاق الثورة.

تقنيات أخازي الروائية كانت مناسبة للمقام الروائي فلم يعطي النص أي أبعاد خيالية أو سوريالية أو فوق واقعية، فقدم الرجل نصاً فيه حزن من نوع فاخر ونضال من ماركة عالمية.

خلاصة القول، “ذاكرة جدار الإعدام” هو نص النضال الشعبي في مواجهة الاستعمار في أي بلدٍ من العالم، ذاكرة تتقاطع فيها صرخات الموجوعين مع صرخات المناضلين في بناء جدار نظيف لبلاد نظيفة.

المصدر : جدار الأدب