يزدحم معرض القاهرة الدولي للكتاب في دورته الحالية الرابعة والخمسين بالندوات الثقافية والترفيهية والأمسيات الشعرية، التي تلقى إقبالاً لافتاً، في ظل ارتفاع أسعار الكتب، وإحجام الكثير من زوار المعرض عن الشراء.
ومنذ افتتاح هذه الدورة والحديث عن أسعار الكتب والقفزة الهائلة فيها يشكل حالة من الحضور الضاغط في أروقة أجنحة الناشرين المصريين، الذين اشتكوا من ارتفاع متتالٍ في أسعار الورق ثلاث مرات في غضون أسابيع قليلة بعد تعويم الجنيه المصري. وحسب شهادات العديد من الأدباء، فإن الإقبال على المعرض، وفي ظل هذه الظروف حتى الآن، يسير وفق المعدلات الطبيعية، التي قد تصل أحياناً إلى عدة ملايين بنهاية المعرض. وفي مواجهة الارتفاع الهائل في أسعار الكتب، برزت أهمية أجنحة العرض الحكومية مثل «الهيئة المصرية العامة للكتاب» و«الهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة» و«المركز القومي للترجمة»، التي نجحت في توفير بديل يتسم بجودة المحتوى يخفف من صدمة أسعار الكتاب في دور النشر الخاصة، وإن كانت أناقة الطباعة وجماليات الغلاف لا تزال غائبة عن المطبوعات الحكومية.
ويعد استعادة تراث رموز الثقافة العربية، في مقدمتهم طه حسين، سمة مميزة لهذه الدورة، حيث أصدرت «هيئة قصور الثقافة» تحت عنوان «تجديد ذكرى طه حسين» 20 عنواناً للقارئ، وذلك بمناسبة مرور 50 عاماً على رحيل عميد الأدب العربي «1989 - 1973». ومن أبرز هذه المؤلفات «مع المتنبي»، و«مع أبي العلاء في سجنه»، و«من آدابنا المعاصرة»، و«من لغو الصيف إلى جد الشتاء»، و«مرآة الإسلام»، و«فصول في الأدب والنقد»، و«في الشعر الجاهلي»، و«الأيام».
في سياق متصل، أعادت دار «الشروق» طبع «تاريخ الفكر المصري الحديث» للدكتور لويس عوض فيما يزيد على 1600 صفحة من القطع الكبير؛ ثلاثة مجلدات تضم الأجزاء الخمسة التي نشرت متفرقة بين ستينات وثمانينات القرن الماضي. قام بإعدادها للنشر وفق هذا التقسيم الثلاثي، وقدم لها بمقدمة تحليلية شارحة الباحث إيهاب الملاح.
وتكمن أهمية هذا العمل في أنه على مدى ثلاثين عاماً، لم يصدر هذا الكتاب المركزي في تاريخ الثقافة مكتملاً. وحسب باحثين، فإن د. لويس عوض يعد أحد أنبغ تلاميذ طه حسين، درس على يديه، وتخرج في مدرسته الليبرالية، كما تأثر به في موسوعية التحصيل والجمع بين الأصالة والمعاصرة في تكوينه الثقافي، ثائراً على الجمود، داعياً إلى التجديد الفكري والحضاري الشامل.
وشكلت مناسبة مرور نصف قرن على رحيل طه حسين محوراً للعديد من الفعاليات في البرنامج الثقافي، التي تحتفي بأدبه وفكره وتناقش آراءه الطليعية، خصوصاً في مسألة الهوية الوطنية ومكوناتها وعناصرها، مثل «منهجية طه حسين» و«طه حسين وقضايا الهوية».
أما صلاح جاهين (1930 - 1986) الذي اختاره المعرض شخصية هذه الدورة، فلم تكتف الندوات التي أقيمت حوله مسيرته بالاحتفاء والإشادة بمنجزه الشعري الغنائي ورباعياته، وإنما كان هناك نوع من التناول النقدي لعلاقته بالسلطة الناصرية وتبنيه لأفكار الاشتراكية كتوجه رسمي آنذاك، مع تركيز خاص على نبل جاهين الإنساني وروحه الدمثة ونزوعه المثالي وإصابته بالاكتئاب بعد هزيمة 1967.
وشهدت الدورة انفتاحاً لافتاً على القضايا العامة غير المتخصصة، وهو ما بدا جلياً في محور «نحن...»، الذي أقيمت تحت لافتته عدة ندوات مهمة مثل «نحن والصناعات الثقافية»، و«نحن والتراث»، و«نحن والذكاء الصناعي»، و«نحن والتاريخ»، و«نحن والمناخ».
وأصبح الناشرون على موعد مع حدث سعيد يتمثل في «البرنامج المهني»، وهو الواجهة الدولية للمعرض لطرح ومناقشة قضايا النشر وصناعته، ويقام بالتوازي مع محاور البرنامج الثقافي، ويتضمن عدة محاور مهمة، منها «الملكية الفكرية... حماية الإبداع في الجمهورية الجديدة»، و«الترجمة عن العربية... جسر الحضارة». في حزمة هذا النشاط، أيضاً يبرز برنامج الناشر الدولي «القاهرة تنادي» (Cairo Calling)، والبرنامج التدريبي للناشرين الذي يضم 9 ورش تدريبية متخصصة، يحاضر فيها ناشرون ومتخصصون في الجوانب المتعلقة بصناعة النشر، وتهدف إلى تقديم معرفة احترافية للناشر؛ وأخيراً مبادرة معرض القاهرة لضخ دماء جديدة تنعش وتطور صناعة النشر «صنايعية الكتاب»، التي تستقبل الصناع من الشباب وتجميع بياناتهم وتقديمها لاحقاً للناشرين.
ومن أهم عناوين الندوات وورش العمل في سياق محوري الترجمة والنشر «خطر القرصنة على اقتصاديات النشر»، و«المترجمون وتحديات الترجمة عن العربية»، و«دور الجوائز في دعم الترجمة»، و«أعمال أدبية نجحت في الوصول... أدباء ترجمت أعمالهم إلى عدة لغات يحكون تجربتهم»، و«نماذج ناجحة في النشر الرقمي»، و«سبل حديثة للتسويق الإلكتروني».
ويبلغ عدد الفعاليات ما يقرب من 500 فعالية، منها ندوة «من الأدب النسوي العربي»، التي شهدت مفارقة لافتة، فالمشاركات أنفسهن تحفظن على مصطلح الأدب النسوي ذاته، حيث أكدت الكاتبة المصرية رشا سمير، أنه يتضمن نوعاً من التمييز ضد المرأة، ويضعها في خانة أنها لا تستطيع أن تكتب إلا عن القضايا التي تخص بنات جنسها، في حين أن القضايا التي تخص المرأة يكتب عنها الرجل بشكل لافت، وكان أبرز مثال في هذا السياق الكاتبان إحسان عبد القدوس، وصنع الله إبراهيم.
وقالت الكاتبة الإماراتية مريم الساعدي، «إن الكتابة من المفترض ألا يتم تصنيفها إلى نسوية أو غير نسوية، فما يتصدى لقضايا المرأة بشكل خاص هو نوع يكتبه باحث وليس مبدع، فالمبدع يكتب دون أن يحدد قضايا معينة لتبنيها، خصوصاً أن الكاتب دائماً يكتب ليعبر عن حالة أو موضوع إنساني بحت».
بالتوازي مع الفعاليات الثقافية، تجذب الأنشطة الفنية العديد من رواد المعرض، كما حدث في أوبريت «الليلة الكبيرة» على مسرح العرائس، تأليف صلاح جاهين وألحان سيد مكاوي، و«السيرة الهلالية» الذي قدمته «فرقة النيل للآلات الشعبية»، فضلاً عن عروض السيرك القومي التي تحظى بإقبال لافت.