يزخر التراث العربي، والإنساني عموماً، بالكثير من قصص العشق والغرام، التي تتنوع نهاياتها بين النهاية السوداوية المأساوية التي تصل بالحبيبين إلى الفراق، ومنها ما ينتهي نهاية سعيدة، وإن قلّت هذه النهايات، كقصص عنترة وعبلة، وقيس وليلى، وروميو وجوليت، وغيرها.
ويشيع في الكتب التي تحكي عن التراث العربي مقولة مفادها «قل أريدها ولا تقل أحبها، فما الحب إلا مذلة للرجال»، وهي حكمة تبدو لنا متناقضة مع شيوع شعر الغزل والحب في التراث العربي، الذي مثل جزءاً كبيراً من ديوان العرب.
بما أننا نعيش في العقد الثالث بعد الألفية الثانية، يصبح للسؤال الآتي أهميته: هل تصلح قصص الحب الكلاسيكية لعام 2023؟
قبل الإجابة عن السؤال السابق، يتوجب علينا الوقوف أمام سؤال آخر، يمكن صياغته على النحو التالي: ما الذي يجعل الأدب الرومانسي عظيماً؟ سؤال يتردد كثيراً في الكتابات الغربية، فمثلًا كتب الروائي الأمريكي توماس بينشون تحت عنوان «الحب غريب»: «مع تقدمنا في السّن، قد نبدأ بالنظر إلى أغاني الحب والروايات الرومانسية والمسلسلات وأي تصريحات حية للمراهقين على الإطلاق حول موضوع الحب بأذن متزايدة الصبر».
تهميش
يشير حديث الروائي الأمريكي إلى تعرض الحب لنوع من التهميش تحت ضغوط الحياة الحديثة، الأمر الذي ينجر على أدبيات قصص الحب عموماً، سواء في عالم الأدب أو الفنون المرئية، كالسينما والمسرح، فكل شيء يبدأ بالأبطال وأولئك الذين يحيطون بهم، ليكتسب الأدب الرومانسي قيمته من شعور المرء بالعاطفة اللامحدودة في القلوب المحدودة التي تحترق.
وتعود أصول الرواية الرومانسية الحديثة، أو الرواية الرومانسية في السوق الجماهيري كما نعرفها اليوم، إلى الخيال الرومانسي في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. في روايات مثل «باميلا» لصموئيل ريتشاردسون، والروايات القوطية لآن رادكليف، تأخذنا تاريخ الرواية القوطية إلى إنجلترا، نهاية القرن الثامن عشر والقصص والحكايات والروايات التي تضمن العناصر السحرية والرعب والأشباح، بجانب أعمال جين أوستن، إذ تعرّف القراء إلى شكل جديد من الروايات يركز بشكل أساسي على حياة ونضالات البطلات. وعلى الرغم من أن الروايات الرومانسية الحديثة قد توسعت لتشمل كلاً من المؤلفين والأبطال من مختلف الأجناس والأعراق والجنس والقدرات، فمن الناحية التاريخية، تفصل الروايات الرومانسية نفسها عن الأنواع الأخرى.
سرد
بالعودة إلى التاريخ المبكر للروايات الرومانسية، نجد أنها تضمنت بطلات تتحدى التقاليد الاجتماعية، أو تتغلب على الصراعات الشخصية سعياً وراء السعادة. ووجدت بطلات هذه الروايات في نهاية المطاف الأحبار في حياتهن لتنتهي الأعمال نهايات آمنة وسعيدة. وأصبح أي تطور لعلاقة رومانسية بين شخصين عادة ما تكون سعيدة، وإن لم تكن دائماً.
عادة ما تعكس الروايات الرومانسية رغبات جمهورها، مثلاً قدمت جين أوستن والأخوات برونتي، خاصة جين وشارلوت، شخصيات نسائية كللت تجاربهن في النهاية بزواج ناجح؛ للتعبير عن فرديتهن، أو رغباتهن الخاصة. وبالنسبة إلى القراء الواقعين تحت سطوة الأعراف والتقاليد الاجتماعية، أصبحت هذه الروايات شكلاً من أشكال الإلهام.
وفي القرن العشرين، أعادت روايات مثل روايات الإنجليزية جورجيت هاير الرومانسية، أبرزها «العثة السوداء» التي نُشرت عام 1921، ومن بعدها ملحمة عصر الحرب الأهلية لمارجريت ميتشل «ذهب مع الريح» 1936، تنشيط الاهتمام العام بالروايات الرومانسية، وعلى الرغم من عدم تصنيف رواية ميتشل كعمل رومانسي من الناحية الفنية، فقد كان لها تأثير طويل الأمد في هذا النوع من الروايات.
وفي 1938، أصبحت رواية «ربيكا» للكاتبة الإنجليزية دافني دو مورييه، من أكثر الكتب مبيعاً، وعززت الكتابات الرومانسية التي تمزج عناصر من أنواع الرعب والرومانسية لخلق روايات مثيرة، وغالباً ما تضم أبطالاً من الإناث يقاتلن في محن مرعبة، ويكافحن من أجل أن يكنّ مع أحبائهن الحقيقيين.
وخلال العشرين عاماً الماضية، كان هناك تحول ثابت نحو الروايات التي تعكس على نحو أكثر دقة تنوع قرائها. وأضافت كتب مثل «حاصل قبلة» للأمريكية هيلين هوانج، و«فتاة الرول» لفانيسا نورث، التمثيل الذي تشتد الحاجة إليه إلى هذا النوع. هذا لا يعني التشكيك في عمل أخريات كالأمريكية بيفرلي جنكينز، التي كانت تكتب قصة رومانسية خيالية تاريخية تضم أبطالاً أمريكيين من أصل إفريقي منذ روايتها الأولى «أغنية الليل»، في عام 1994. ويطالب القراء ببساطة بمزيد من التمثيل والشمول في الروايات الرومانسية، حدّ تقارير نشرت في الصحف الأمريكية.
قصة الحي الغربي
منذ نحو ستين عاماً، وحينما عرض الفيلم الروائي الاستعراضي «قصة الحي الغربي» حصد 10 جوائز أوسكار، من أصل 11 ترشيحاً، من بينها أفضل فيلم وممثل ثانوي وممثلة ثانوية وأزياء وموسيقى، للمخرج روبرت وايز. وهو عمل يستند إلى معالجة استعراضية لمسرحية وليم شكسبير الشهيرة «روميو وجوليت»، لكن مع احداث كم من التغييرات وسط ذلك المناخ تتشكل ملامح عصابات تسيطر على ذلك الحي، ومنها عصابة الطائرات البيضاء بقيادة (ريف) وأيضا ًعصابة أسماك القرش البورتوريكي بقيادة برناردو.
ومنذ نحو عام، أغرت الحكاية المخرج الشهير ستيفن سبيلبرغ في فيلم بالاسم نفسه «قصة الحي الغربي»، وتوقع الكثيرون إخفاق سبيلبرغ، فكان التحدي، العودة إلى حكاية قديمة، وسبق تقديمها سينمائياً، لإعادة إنتاجها في الألفية الجديدة، وبعد أن عاش العام جائحة كورونا وما تبعها من تأثيرات.
التحدي لدى سبيلبرغ لم يكن في الاعتماد على حكاية حب شهيرة فقط، إنما في المقارنة بين عمله وفيلم آخر يصنف كواحد من أعظم الأفلام الموسيقية في التاريخ، واحتل مكانة متقدمة بين أعظم مئة فيلم في تاريخ السينما، إلى جانب احتلاله لسنوات، المركز الأول بين أكثر الأفلام إيرادات، على الأقل حتى ظهور «صوت الموسيقى» للمخرج روبرت وايز نفسه. لكن سبيلبرغ نجح وحقق عمله نجاحاً كبيراً.
السؤال هنا: كيف نجح سبيلبرغ في إعادة تقديم روميو وجوليت مرة أخرى؟ الإجابة ببساطة في «العصرنة»، أي تقديم الحكاية في قالب عصري، وبأدوات الإنتاج الحديثة التي وفرتها ثورة التكنولوجيا الفائقة، ومن ثم ربط الجمهور بالحكاية المعروفة سلفاً، التي سبق أن قدمت له مئات المرات، وبطرائق مختلفة.
هذه الحبكة الذكية لسبيلبرغ دفعت بالناقد السينمائي إبراهيم العريس إلى القول إنه لا شك في أن خبرة سبيلبرغ التي باتت هائلة في التعامل الواقعي مع الممثلين أضفت على الفيلم الجديد حداثة في الأداء، لا يمكن القول إنها كانت من سمات الفيلم القديم، إذ في فيلم سبيلبرغ أحلّ أداء يبدو طالعاً مباشرة من أفلام الجانجستر gangster والسينما «نوار» مكان ذلك الأداء الرومنطيقي.
أسلافنا العشاق
مع العالم الحديث، عالم التكنولوجيا الفائقة والأوبئة والحروب، بتنا في «مجتمع المخاطر» بتعبير عالم الاجتماع أولريش بيك، بالتالي نعتقد أن الحاجة للحب أعمق وأكبر من أوقات مضت، استناداً إلى أن الحب قادر على كسر الحصار وعبور الحدود، وقادر على التحدي وإثبات أنه يفرض وجوده وأن المحبين للمحبات.
ولأن الكراهية باقية طالما بقي الحبّ، فإن قيمة الآداب والفنون لا تتمثل في العمل على إلغاء الكراهية أو التخلص التام منها، إنما السعي نحو علامة كشط على الكُره، الكشط بما يمحو الشيء ويبقيه في الوقت ذاته، العلامة التي لا تُفني الشيء ولا تتركه على هيئته الأولى، الشطب الذي يترك أثراً وندوباً في القلب والكتابة، معاً.
غزارة في الإنتاج
أصبحت كاتبات وروائيات مثل إليانور أليس هيبرت، التي كتبت قصة خيالية تاريخية تحت اسم مستعار جان بلايدي، والرومانسية القوطية تحت اسم فيكتوريا هولت، غزيرات الإنتاج منذ الخمسينات فصاعداً. تحت أسماء مختلفة، ويمكن لهؤلاء النساء استكشاف وإنشاء أنواع فرعية جديدة من شأنها جذب جمهور أكبر.