تحليلات العمليات الأمريكية ضد الحوثيين : المواقف و الأهداف و المآلات

صدى الحقيقة : خلدون عبدالله الشعبي

في ١٤ من مارس الماضي أعلنت الولايات المتحدة انطلاق عملياتها العسكرية ضد الحوثيين ردًّا على إعلانهم استئناف هجماتهم في البحر الأحمر ضد السفن الإسرائيلية. الضربات التي نفذها سلاح الجو والبحرية الأمريكية، تنوعت أهدافها بين مواقع عسكرية، منشآت مدنية وبنى تحتية يسيطر عليها الحوثيون، بالإضافة إلى مراكز ادارة عمليات الجماعة وشخصيات قيادية لم يُفصح عن هوياتها بعد من كلا الجانبين. وفي خصم التطورات، يسعى المقال إلى قراءة الأبعاد والسيناريوهات المتوقعة في المشهد اليمني، بداية من دراسة أهداف طرفي المواجهة، الحوثيون والولايات المتحدة، وتقييم فرص وتحديات تحققها، واستنتاج مآلات المواجهة الجارية.

الحوثيون :

بدأت العمليات البحرية للحوثيين في وقت مبكر من الحرب الأهلية في اليمن حتى توقيع اتفاقية ستوكهولم في ديسمبر ٢٠١٨، والتي ثبتت نفوذ الجماعة في مدينة الحديدة والساحل الغربي لليمن. في حينها ارتكزت العمليات الحوثية على استغلال العمق الجغرافي لليمن في البحر الأحمر لتعويض فارق الإمكانات، وتنفيذ عمليات محدودة ضد أهداف عسكرية سعودية وإماراتية ويمنية، استخدمت فيها الجماعة الألغام البحرية والقوارب المسيرة والصواريخ أرض-أرض المعدلة.

في ١٩ أكتوبر ٢٠٢٣ أعلن المجلس السياسي الأعلى التابع للحوثيين انطلاق معركة الجهاد المقدس، وإغلاق مياه البحر الأحمر ضد السفن الإسرائيلية أو تلك المتوجهة إلى موانئ الأراضي المحتلة، وذلك – بحسب خطاب الجماعة- استجابة لحرب الإبادة التي تشنها إسرائيل ضد الفلسطينيين في غزة. وعلى العكس من العمليات السابقة ٢٠١٦-٢٠١٨ شهدت الهجمات الحوثية نقلة نوعية على مستوى التكتيكات التي تنوعت بين الضربات البعيدة والإنزال الجوي على السفن، وكذا نوع التسليح الذي تضمَّن استخدامًا مكثفًا للمسيرات والصواريخ البالستية.

استجابت الولايات المتحدة وحلفاؤها للعمليات الحوثية عبر تشكيل تحالف حراس الازدهار في ديسمبر ٢٠٢٣، بحجة حماية الملاحة الدولية، وهو ادعاء يستدعي المزيد من التقييم المتعمق على مستوى الأهداف والنتائج. فمن ناحية، كانت العمليات الحوثية -إلى ما قبل تشكيل التحالف- انتقائية ضد أهداف مرتبطة بحركة الملاحة الإسرائيلية. وبينما ترتبط سلاسل الأمداد ببعضها، من المؤكد أنَّ العمليات الحوثية ستؤثر في حركة الملاحة في البحر الأحمر، ولكن بصورة محدودة، وذلك لمحدودية حصة إسرائيل من إجمالي حركة التجارة العابرة للممر المائي الاستراتيجي.

وبحسب إحصاءات شركة لويدز للتأمين البحري، فإنَّ حركة الملاحة عبر مضيق باب المندب، بما فيها تلك المتوجهة إلى الموانئ اليمنية، لم تشهد انخفاضًا حتى تم تشكيل تحالف الازدهار ثم شهدت انتكاسة أخرى أكثر شدة بعد تنفيذ الولايات المتحدة لأولى ضرباتها على الأراضي اليمنية في ١٢ يناير ٢٠٢٤، وما أتبعها من رد حوثي وضربات متبادلة بين الطرفين، أدت إلى عسكرة الممرات المائية في جنوب البحر الأحمر ومحيط مضيق باب المندب وخليج عدن، وتغيير نوع المواجهة وقواعد الاشتباك.

بالتزامن مع إعلان الهدنة ووقف إطلاق النار في غزة في يناير ٢٠٢٥، أعلن الحوثيون وقف عملياتهم البحرية، إلا أنَّ حالة عسكرة المياه اليمنية ظلت قائمة، وبدا أنَّ التصعيد في جنوب البحر الأحمر وبين الحوثيين والولايات المتحدة له دوافع أخرى منفصلة عن الحرب في غزة، ترتبط بإعادة رسم المشهد الجيوسياسي في الشرق الأوسط ضمن خارطة الحرب الأوسع التي تخوضها إسرائيل في المنطقة.

بالتزامن مع الخرق الإسرائيلي للهدنة، وبداية العمليات العسكرية في غزة، أعلن الحوثيون، عبر بيان لقواتهم المسلحة، إعادة الحظر على حركة الملاحة الإسرائيلية واستئناف العمليات في البحر الأحمر وباب المندب وخليج عدن بداية من يوم ١١ مارس المنصرم.

بينما يظل دعم المقاومة الفلسطينية الهدف المعلن للحوثيين، تسهم العمليات في تحقيق أهداف أخرى أقل إفصاحًا وربما أكثر استراتيجية، يمكن تلخيصها في أربع نقاط رئيسية.

أولًا، مركزية الصراع وديمومته، في كونه جزءًا أصيلًا في استراتيجية بقاء الجماعة وتعميق نفوذها السياسي، والعسكري، والاقتصادي، والقبلي. وفي هذا المنحى تكتسب حرب غزة، والقضية الفلسطينية أهمية مضاعفة في منح الحوثيين شرعية محلية وقبولًا جماهيريًّا إقليميًّا في مقابل نظرائهم اليمنيين ضمن معسكر الحكومة المعترف بها دوليًّا.

ثانيًا، منذ فوز ترامب بالانتخابات الرئاسية في نوفمبر ٢٠٢٤ وتتويجه في يناير الماضي، كان واضحًا أنَّ قرار ضرب الحوثيين قد حُسم في واشنطن، حيث صعَّدت الإدارة الأمريكية إجراءاتها ضد الجماعة بداية من صدور قرار تصنيفهم جماعة إرهابية بعد جلوس ترامب على كرسي المكتب البيضاوي بيومين فقط، ودخل القرار حيز التنفيذ مطلع مارس الماضي. وبالنسبة للحوثيين، بدا جليًّا أنَّ مساعي التهدئة محتومة بالفشل في ظل استمرار التصعيد الأمريكي. وبالتالي مثّل انهيار وقف إطلاق النار في غزة، لحظة مثالية لقيام الجماعة بإجراء استباقي.

ثالثًا، يمثل الساحل الغربي اليمني وواجهته البحرية، شريان حياة الحوثيين وخط إمدادهم اللوجستي الأساسي، حيث تتدفق البضائع والمشتقات النفطية إلى مناطق سيطرة الجماعة عبر موانئ الحديدة والصليف ورأس عيسى، والتي يمثل نشاطها التجاري رافدًا اقتصاديًّا مهمًا، تقدره تقارير حكومية بحوالي ٢٧ مليون دولار سنويًّا دون الرسوم الضريبية والجمركية. كما أفادت تقارير حكومية وأممية لاحتمالية عسكرة الحوثيين لهذه الموانئ وتهريب الأسلحة والذخائر عبرها في ظل الخرق المتكرر لآلية الأمم المتحدة لتفتيش السفن UNVIM.

لذلك تهدف استراتيجية الحوثيين في موانئ الساحل الغربي لليمن والمياه الجنوبية للبحر الأحمر، إلى تحقيق السيطرة عليها، وهو الخيار الأول، أو الحيلولة دون تمكن طرف آخر من إحكام قبضته عليها، وفي هذه الحالة يسعى الحوثيون إلى إبقاء التوتر بما يحول دون السيطرة الأمريكية الكاملة على ممرات البحر الأحمر وكذا منع أي طرف يمني منافس من استثمار الفرصة، ولا سيما في سحب الخطوط الملاحية والسفن من الموانئ القابعة تحت سيطرة الحوثيين إلى تلك الواقعة تحت إدارة الحكومة المعترف بها دوليًّا.

رابعًا، وعلى المستوى الإقليمي، ترتبط حسابات الحوثيين وخياراتهم بصورة وثيقة بالتفصيلات الاستراتيجية لحليفهم الإيراني. بعد خسارة حزب الله ونظام الأسد، باتت طهران تنظر إلى الحوثيين وهجمات البحر الأحمر، باعتبارها ورقة متاحة وربما حتمية للضغط على واشنطن والسعي إلى تشتيت القوات الأمريكية وإبقاء المعركة بعيدًا عن أصولها النووية. وبالرغم من نفي قائد الحرس الثوري الإيراني، اللواء حسين سلامي، لوجود أي علاقة لطهران بهجمات الحوثيين، فإنَّ التصعيد الأخير لا يمكن قراءته بصورة منفصلة عن الدعم الإيراني للحوثيين منذ بداية الحرب في اليمن واستراتيجية طهران في دعم الجماعة.

الولايات المتحدة :

يُعدُّ ارتباط الولايات المتحدة بالبحر الأحمر جيوسياسيًّا أكثر منه اقتصاديًّا، حيث تمر قرابة ١٠٪؜ من إجمالي الواردات الأمريكية عبر البحر الأحمر، في مقابل ٢٥٪؜ و٤٠٪؜ يتم نقلها بين ضفتي المحيطين الأطلسي والهادئ على التوالي. في المقابل تعتمد الولايات المتحدة، المعزولة جغرافيًّا عن القارة العالمية (أوروبا، آسيا وإفريقيا) على حرية الملاحة، ولا سيما لأسطولها الحربي، باعتبار ذلك الركيزة الأساسية لبقاء هيمنتها الدولية، ما يحتم سيطرتها على الممرات والمضائق الاستراتيجية أو تدويلها. وفي الشرق الأوسط، يكتسب البحر الأحمر وباب المندب أهمية مضاعفة، باعتباره جزءًا من الهاجس الأمني الإسرائيلي، وممرًا حيويًّا للدول العربية في المنطقة.

على الجانب الاخر، وفي الوقت الذي تجاوز فيه ترامب مصالح حلفائه التقليديين في أوروبا في ملفات عدة كأوكرانيا والناتو والتجارة الحرة، من غير المنطقي افتراض أنَّ العمليات الأمريكية تأتي حماية للتجارة الأوروبية عبر البحر الأحمر، الذي تبحر على مياهه حوالي ٣٠ ٪؜ من صادرات أوروبا و٤٠٪؜ من وارداتها. وبتقييم ذلك في سياق المحددات السابقة، يمكن القول إنَّ عمليات الولايات المتحدة تأتي لتحقيق خمسة أهداف محتملة تخدم العم سام.

في المقام الأول، تدرك واشنطن أنَّ العمليات الحوثية مثّلت خرقًا لمعادلة الردع وميزان التهديد اللذين ظلا يميلان لصالح واشنطن منذ تفكك الاتحاد السوفييتي والتحول إلى نظام القطب الواحد. وبالتالي يسعى البيت الأبيض إلى توجيه ضربات موجعة للحوثيين تدفع بهم نحو التراجع والانكماش إلى مربع عملياتهم فيما قبل أكتوبر ٢٠٢٣ وربما أكثر من ذلك.

ثانيًا، على ذات المنوال، تدرس واشنطن عملياتها في اليمن ضمن الخارطة الأوسع لردع طهران وتفكيك نفوذها إقليميًّا.

ثالثًا، وبما يتصل بالهدف الثاني، يحقق التواجد العسكري للولايات المتحدة في جنوب البحر الأحمر ومحيط باب المندب، عمقًا استراتيجيًّا لإسرائيل في واحدة من أهم المواضع الجيوستراتيجية التي ظلت تؤرق القيادة الإسرائيلية منذ تأسيس الكيان في ١٩٤٨. إذ بقي البحر الأحمر ممرًا عربيًّا تتحكم كل من مصر واليمن في منافذه ومضائقه الاستراتيجية (باب المندب، السويس، وتيران) مع إمكانية عسكرتها كما في حرب أكتوبر ١٩٧٣، ما ظل عاملًا معطلًا لاستثمار إسرائيل لميناء إيلات (أم الرشراش) والاستفادة من تموضعها الذي يربط بين أوروبا وآسيا، بحريًّا وقاريًّا وإنشاء ممر بين البحرين الأحمر والمتوسط يقطع الأراضي المحتلة.

ولعل أهم أهداف إسرائيل في الحرب الجارية يتمثل في إعادة ضبط المعادلة الجيوسياسية في الشرق الأوسط واكتساب عمق استراتيجي في نقاط ضعفها السابقة كشمال غزة، وجنوب لبنان، وقمة جبل الشيخ على هضبة الجولان، ومضيق باب المندب، والأخير لم يزل هدفًا غير متحقق بعد.

رابعًا، وفي ذات المسعى، لا تسلم إجراءات عسكرة البحر الأحمر والضربات على مناطق سيطرة الحوثيين في اليمن، من كونها، في الجهة الأخرى تخلق أعباء إضافية على اقتصاد مصر الذي تعتصره الديون والتضخم. فبينما بلغت خسائر قناة السويس ٧ مليارات في العام المنصرم، صرح الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي أنَّ بلاده تخسر ٨٠٠ مليون دولار شهريًّا جراء النزاع الجاري في الضفة الجنوبية للبحر الأحمر. في هذا السياق لا يستبعد أنَّ عمليات التوتر في البحر الأحمر تأتي ضمن استراتيجية الضغط الأمريكية على مصر التي شملت قطع المعونات والتلويح بمزيد من الإجراءات، وذلك لدفع القاهرة للقبول بالحلول والمبادرات التي تطرحها واشنطن لإيقاف الحرب في غزة.

خامسًا، تمتلك واشنطن أهدافًا ومطامع أصيلة في مضيق باب المندب تذهب إلى ما هو أبعد من حدود العمليات الحوثية، وصولًا إلى أعمدة الاستراتيجية الكبرى للولايات المتحدة التي ترتكز على حرية الملاحة وارتباط ذلك بالسيطرة على المخانق الاستراتيجية -البحار الضيقة والمضائق- ومن أهمها باب المندب.

بالرجوع إلى التقرير السنوي لوزارة الدفاع الأمريكية عن حرية الملاحة، والذي يتطرق بصورة عامة لحركة الأسطول الأمريكي في البحار والمضائق الاستراتيجية، يرد باب المندب والحكومة اليمنية المعترف بها دوليًّا، ضمن ما تصنفه الولايات المتحدة، مطالبة غير مشروعة بالحدود البحرية وطلب الإذن المسبق لمنح الأسطول الأمريكي حق المرور العابر. ما يعكس عدم رضى الحكومة الأمريكية عن الوضع القانوني والجيوسياسي لباب المندب والبحر الأحمر حتى ما قبل العمليات البحرية للحوثيين.

وفي سياق أكثر خصوصية، اكتسب باب المندب أهمية ووضعًا أشد حساسية، بعد ذهاب الحكومة الصينية إلى إنشاء أول قاعدة بحرية لها خارج الحدود على خليج تجرة في جيبوتي، في الضفة المقابلة لليمن. وبالتالي، وعلى غرار التنافس بين القوتين في مضائق تايوان وملقا، تبحث الولايات المتحدة عن موطئ قدم مكافئ لنظيرتها الصين. ومن المتوقع أن تستغل العمليات الحوثية لتثبيت وضع عسكري وقانوني في باب المندب يمنحها امتيازًا جيوسياسيًّا بصورة مستدامة.

المآلات والخيارات المتاحة :

بين أهداف الطرفين، تلعب مجموعة من العوامل دورًا محوريًّا في ترجيح كفة الميزان. بالنسبة للحوثيين، يجد المتمردون اليمنيون أنفسهم أمام حتمية الاستمرار في عملياتهم لأسباب تتعلق بصمود الجماعة ومراكز قوتها في الداخل وكذا للضغط الإيراني المفروض عليها من الخارج، ويسعى الحوثيون لتوظيف الهجمات الأمريكية دليلًا على مصداقيتهم وصحة خطابهم الثوري على الأصعدة المحلية والإقليمية والدولية. ويعولون بذلك على معركة النفس الطويل التي ستضع الإدارة الأمريكية تحت الضغط لا سيما في ظل سقوط ضحايا مدنيين، بما يدفعها إلى إعادة تقييم مستوى نجاح العمليات وجدوى استمرارها.

ويؤمل الحوثيون على إقرارهم -من جانب الولايات المتحدة- على مواضع سيطرتهم في الساحل الغربي، وهو ما قد تقبل به إدارة ترامب إذا تم الاعتراف بمطالبها في البحر – سواء بصورة معلنة أو ضمنية- ما يعني بحث الجماعة في آخر المطاف عن تعزيز فرص إبرام صفقة برجماتية بين الطرفين المتصارعين، لا سيما إذا ما استطاع الحوثيون الصمود أبعد من المدى المأمول للبيت الأبيض وأطول من فترة ٦٠ يومًا المتاحة دستوريًّا للرئيس في التوجيه بعمليات عسكرية محدودة دون الرجوع إلى الكونجرس.

في المقابل، يبحث ترامب عن المكاسب القصوى، وبذلك ترغب الإدارة الأمريكية في الظفر بالمكاسب المادية/ الجيوسياسية، وكذا المكاسب المعنوية/ الرمزية، ولا سيما في إعادة تثبيت معادلة الردع والهيمنة الأمريكية. وهو ما يدفع بالبيت الأبيض إلى التصعيد والتصعيد المضاد أمام أي رد فعل حوثي. وتعول الولايات المتحدة بدرجة رئيسية على ضربات سلاح الجو في عملياتها العسكرية، التي تظل فعالياتها موضع نقاش مستفيض لأسباب عامة تتعلق بجدلية جدوى الغارات الجوية في المناطق الجبلية، وكذا أسباب خاصة ترتبط بمدى امتلاك الولايات المتحدة لمعلومات نوعية ترفع من كفاءة ضرباتها.

بالتركيز على الأسباب الخاصة ومقدرة أمريكا على توظيف الضربات الجوية -في أحسن السيناريوهات- في المشهد اليمني، من غير المعلوم أو المرجح امتلاك الولايات المتحدة لمعلومات استخباراتية كتلك التي توافرت عن حزب الله في لبنان، حيث على مدى العقد المنصرم، ظل الحوثيون أقل لاعب في المحور الإيراني يحظى باهتمام واشنطن وتل أبيب، وربما صاحب الملف الأصغر على طاولة أجهزة المخابرات، لكن استمرار العمليات الحوثية يتيح للولايات المتحدة رصد مخازن الأسلحة ومنصات إطلاق الصواريخ والمسيرات وتكوين قاعدة بيانات ضخمة عن بنوك الأهداف المحتملة.

لقد استهدفت الغارات الأمريكية الأخيرة أهدافًا نوعية في مناطق نائية في شمال وشمال غرب اليمن، تضمنت أنفاق جبلية، يشتبه في كونها مخازن أسلحة، في منطقتي جربان في مديرية سنحان جنوب صنعاء، وجبال آل سالم بمديرية كتاف بمحافظة صعدة. بالإضافة إلى ثكنات عسكرية ومنصات إطلاق للمسيرات في محافظة الجوف، ومجمع عمد الواقع بين صنعاء وذمار، ومنطقة حرف سفيان في محافظة عمران شمال صنعاء. كما تَدَّعي الولايات المتحدة استهدافها لقادة في صفوف الحوثيين، منهم خبير في التصنيع العسكري، دون أن يتم الإفصاح عن هويته من الجانبين الأمريكي والحوثي على حد سواء.

بالرغم من ذلك، بإعادة تقييم العمليات الأمريكية في سياق عمليات التحالف العربي وضرباته الجوية ٢٠١٥-٢٠٢١ ومحدودية أثرها في ردع الجماعة، يُستنتج أنَّ الولايات المتحدة قد تجد نفسها في آخر المطاف بحاجة إلى عمل بري لتحقيق أهدافها. وفي حالة لجوء واشنطن إلى خيار القتال على الأرض، من الغالب قيامها بعمليات محدودة جغرافيًّا وعسكريًّا، على الأرجح في مدينة الحديدة ومحيط الساحل الغربي لليمن، بالإضافة إلى بعض النقاط المتاخمة لسيطرة مكونات الحكومة المعترف بها دوليًّا، على غرار مأرب، والبيضاء، وحتى حدود نهم وجنوب ذمار، على التوالي. وذلك لصعوبة دفع المعارك نحو مراكز سيطرة الحوثيين في المرتفعات الشمالية، والشمالية الغربية، وكذا لكون مسارح العمليات المرجحة كفيلة بإكساب الولايات المتحدة وإسرائيل العمق الاستراتيجي المطلوب في البحر الأحمر، الذي يمثل إلى جانب الحد من النفوذ الإيراني، أولوية واشنطن الكبرى في الملف اليمني.

كما تحرص الولايات المتحدة ضمن استراتيجيتها العامة، على ديمومة وجود مصدر تهديد في خاصرة حلفائها التقليديين، كحال كوريا الشمالية في محيط جارتها الجنوبية واليابان. وفي الحالة الشرق أوسطية، وفي محيط الجزيرة العربية، يمثل بقاء الحوثيين، والتهديد الإيراني بصورة عامة، ضامنًا لديمومة النفوذ الأمريكي في علاقة واشنطن بعواصم النفط العربية، وبالتالي من المستبعد ذهاب أمريكا نحو خيار تصفير التهديد الحوثي، وهو ما يعزز من فرضية العمل البري المحدود.

يصطدم الخيار البري للبيت الأبيض بمعارضة داخلية لإرسال أي قوات أمريكية للقتال في الشرق الأوسط، وكذا خطاب ترامب نفسه عن التزامه بسحب الجنود الأمريكيين. ما يجعل الاستعانة بحليف يمني، بديلًا عمليًّا في هذه الحالة. من جانبها تتهافت المكونات اليمنية ضمن معسكر الحكومة المعترف بها دوليًّا لخطب ود واشنطن، إذ يمثل ذلك ركيزة أساسية في تمكينها من المشهد اليمني، ليس على حساب الحوثين وحسب، ولكن حتى على حساب شركائها. إلا أنَّ هذا الخيار أيضًا يصطدم ببعض المعوقات أيضًا، حيث يتحتم على واشنطن، في هذه الحالة، النظر في الحليف المحتمل أبعد من حدود العمليات العسكرية، إلى الكيفية التي تريد رسم المشهد اليمني وفقها، وهو ما لا ترغب فيه إدارة ترامب التي صرح وزير دفاعها “بيت هيجسيث” عن عدم رغبة بلاده من التدخل في الحرب الأهلية اليمنية.

بالإضافة إلى ذلك، يستدعي انتقاء حليف يمني التشاور بين واشنطن ودول التحالف العربي، لا سيما المملكة العربية السعودية، التي ظلت تتعاطى مع ملف العمليات الحوثية في البحر الأحمر بتحفظ وحذر شديدين وامتنعت عن الدخول في التحالف الدولي لما قد يجتره ذلك من ضربات حوثية محتملة على أراضيها ومنشآتها النفطية. وعلى ذات المنوال، قد يفسر الحوثيون مشاركة مكون يمني مقرب من الرياض، أو أبو ظبي، في عمل عسكري أمريكي، باعتباره عملًا خليجيًّا مباشرًا ضدهم يستوجب الرد المضاد.

بتقييم المكونات اليمنية نفسها ضمن معسكر الحكومة، تفضل هذه المكونات -مع تحمسها للعمل الأمريكي- السيناريو اللبناني منه على الحالة السورية، أي أنَّها تأمل أن تقوم الولايات المتحدة بضرب الحوثيين بصورة حاسمة نيابة عنها، ومن ثم تسليمها إدارة المناطق التي جرى إخراج الحوثيين منها. ومع ذلك، تحول حالة الانقسام في معسكر الحكومة وتَشَظّي المكونات دون مقدرة تيار معين على ملء الفراغ الذي قد ينجم عن سقوط الحوثيين إذا ما فكرت واشنطن بذلك.

وعليه، تعول الولايات المتحدة على رفع كفاءة وجودة ضرباتها الجوية ولا سيما مع استمرار العمليات الحوثية التي تمكن واشنطن من تحديث قائمة بنك أهدافها كميًّا ونوعيًّا. بينما يخدم عامل الوقت الحوثيين، قد تجد إدارة البيت الأبيض نفسها أمام حتمية التعامل مع حليف أو مجموعة حلفاء يمنيين بالرغم من التعقيدات السابق ذكرها، والتي تؤكد أنَّ العمل البري -إن تم- فسيكون محدودًا من الناحيتين الجغرافية والاستراتيجية، وسيكتفي بإزاحة الحوثيين عن المواضع التي تجعلهم مصدر تهديد -المذكورة في الأعلى- مع الإبقاء على المشهد اليمني بفوضويته الراهنة.

الخلاصة :

ينظر الحوثيون إلى عملياتهم في البحر الأحمر باعتبارها خيارًا لا يمكن تجاوزه لاعتبارات محلية ترتبط بتمكين نفوذهم في المشهد اليمني، وكذا لاعتبارات دولية ترتبط بحسابات إيران الإقليمية من جهة وحسم القرار في واشنطن في التصعيد مع الحوثيين. وتسعى الجماعة في ظل الهجمات الأمريكية إلى تعزيز صورتها الرمزية في الداخل والخارج ودعم خطابها الثوري ومصداقيته وتعول على عامل الوقت وانعكاسه سلبًا على الحماسة الأمريكية بما يدفع البيت الأبيض للبحث عن مخرج تفاوضي عند نقطة تثبت مصالح الطرفين. أما الولايات المتحدة من جانبها، تنظر إلى عملياتها في اليمن من زوايا متعددة ترتبط بإعادة رسم التوازن والموقف الاستراتيجي على الممرات المائية أكثر من البر اليمني، الذي تقتصر مصلحة واشنطن فيه على تعطيل الامتيازات العملياتية للحوثيين.

تركز الهجمات الأمريكية في الوقت الحالي على توظيف سلاح الجو ومشاركة مدفعية من البحرية، والتي تأمل برفع كفاءتها بالتزامن مع استمرار الردود الحوثية، بما يتيح الحصول على المزيد من المعلومات النوعية عن مخازن ومنصات إطلاق الصواريخ والمسيرات الحوثية وغيرها من الأهداف الاستراتيجية. وبالرغم من ذلك يظل خيار التدخل البري واردًا وربما حتميًّا بالرغم من التحديات التي تحيط به، ما يجعل ذهاب البيت الأبيض وإدارة الرئيس ترامب نحو دعم حليف أو حلفاء يمنيين مرتبطًا بعمل ذي نطاق محدود من الناحيتين الاستراتيجية والجغرافية، مما يكسب واشنطن عمقًا استراتيجيًّا في البحر دون الحاجة إلى التوغل في أعماق الفوضى اليمنية.

 

الباحث : خلدون عبدالله الشعبي.
ماجيستير في الدراسات الاستراتيجية والدفاع.