البرزخ .. قصة قصيرة

صدى الحقيقة : بسام الحروري

هأنذا أزيح نتف السحاب السابحة حولي من هذا العالم الحلم، لأطل على العالم الأرضي ومايعتمل على  سطحه، فقد تشرب ماتشرب من دماء ،حتى كاد أن يصير  أحمرَ قانيا، كل شيء هنا خفيف الوزن، وغائمٌ أحيانا ،وموغل في السريالية، حتى أني أشعر بخفتي (كالريشة تحملها النسمات) على حد قول ماجدة الرومي. 
يا تُرى هل يستحق الوصول إلى هنا كل هذا العناء؟ تساءلت.
ربما ! .. لاأدري! ..لازلت مشوشا،
فقد أثقل المشايخ ورجال الدين ضمائرنا ووعينا الجمعي, وحشوه بما استطاعوا من زيف وتلفيق، بكل هذه التركة الهائلة من الخوف والوحشية، التي فاقت أعتى أفلام الرعب، وما يمكن أن يخطر على بال مؤلف، أو يترجمها مخرج سينمائي قدير.

لم أكن لأتخيل أن ينهي حياتي (شاص) مجنون،ويلغي كل مشاريعي التي خططت لها منذ زمن، في هذه الحياة ،حتى ورقة الإجازة التي انتزعتها بعد عناء من مديرِي الفظ،
رأيتها تتهادى أمامي مبتعدة عني، لم تغب عن ناظري كثيرا، وأنا مجندل على الأسفلت أدلف عتبات العدم، ثم غضضت الطرف عنها، معللا نفسي بأننا لسنا سوى كائنات من ورق في هذه الحياة البائسة التي تكتنفها الورق. فمنذ الولادة التي تفتتحها شهادة الميلاد أو (المخلقة) كما نسميها حتى الموت الذي يختتم حياتنا بشهادة الوفاة، وما بينهما من أوراق وأوراق، والمصيبة أن بعضها مزور ،أو ليس دقيقا، فمثلا أنا من مواليد عام ٩١ ولكن في بطاقة هويتي مكتوب مواليد١/١/ ١٩٩٠م وهذا غير صحيح، وغير عادل ألبتة.
كذلك اسمي معرف في بطاقة هويتي (أسعد أسعد جابر ) وينادونني في الحياة ب(أسعد الألثغ)، كم هو متناقض هذا العالم ! بل ويزيد في ذلك بتوثيق تناقضه على الورق، وكأن وجودنا لايثبت إلا بتلك الورق..
لست معترضا على توقيت القضاء والقدر في إنهاء مسيرة العناء خاصتي بآلة مجنونة، كهذه، التي يوجهها البشري الذي يبحث عن الخلود،وهو يعلم أنه ميت لامحالة، 
ولكن هذا حصل عندما قررت أن أتغير، فعندما قررت أن أصير رومانسيا وأهدي زوجتي في عيد ميلادها وردة وهدية أسعدها بها، تغيرت كل الحسابات حينها، حتى تلك الوردة طارت من يدي، وتطايرت بتلاتها الحمراء من شدة الدهس وربما جاءت على وجه أحد السابلة في الشارع فلعنني ولعن رومانسيتي،
فكرت بأشياء كثيرة وأنا أدلف حيز هذه المساحة الفاصلة بين الحياة والعدم ،كم تشبه الحلم كثيرا,حتى أن دخولي فيها كان أشبه بالعرض البطيء، ولم أشعر  بألم ارتطامي (بالشاص) أو العكس، وربما شعرت به ولكن ليس بتلك الوحشية والفضاعة التي كنا نتخيلها
لقد حضرني شيء من هذا القبيل، وتذكرت الرجل العجوز وهو يبتسم بهدوء ويطمئنني، حينما شاهدني أتفقد جسمي بذهول، هل أصابته رصاصة؟ ! عندما أطلق جنود الأمن المركزي وابلا من الرصاص الحي من على رءوس الجبال لتفريقنا في المظاهرات التي كنا نشارك فيها، في فعاليات الحراك السلمي الجنوبي، على امتداد شارع البنك ب(كريتر) وقتها، فخاطبني الرجل حينها :(إن الرصاصة التي تقتلك لن تسمع صوتها) 
على أية حال دعونا نعود إلى حادثة (الشاص) وفعلا لم أشعر بوقع الارتطام حينها، وربما وجدت إجابات شافية لبعض تساؤلاتي الوجودية، التي كنت اكتمها ولا أبوح بها في الحياة الدنيا، خشية أن أتهم بالكفر والزندقة، حتى أصبحت كائنا شديد الصمت, وأدركت الآن أننا كنا نخاف من الموت, ونحن بالأصل نخاف الوسيلة أو الطريقة التي يحصل فيها الموت، أوتؤدي إلى الموت، كالحريق أو الغرق مثلا، أو القتل، أو غيرها من الحوادث المخيفة.طبعت هذه الصورة في عقلنا الباطن للأسف بشكل مقلوب أو خاطئ
كانت تلك المساحة/ البرزخ بين الرصيف والشارع والمستشفى، كفيلة بأن تكشف لي الكثير عن نفسي, وعن الآخر, كل ما أذكره في هذه المساحة/ الحلم أن سائق (الشاص) ولّى هاربا ولم يكترث بي, كان ثمة نوع من الطنين الخفيف يعتري مسامعي, لكني سمعت الناس وهم يرثون لحالي: يا ألله يا ألله أووووه ..مسكين.. لطفك يارب.. الحقوا صاحب الشاص ال.... ابن  ال ..... وبدؤوا يتزاحمون حولي ليتأكدوا من أنني مازلت حيا. 
لا أخفيكم فرحت بهذا الاهتمام الذي لم أحظَ به كثيرا في حياتي، وربما مر بجانبي (مطوع) يفرك أسنانه بالسواك بقوة, فيبصق عن شماله وهو يقول : ماذا فعل هذا في حياته حتى يلاقي ربه بخاتمة شنيعة؟!  أعوذ بالله من سوء الخاتمة! ثم يمضي لحال سبيله، وفي الأثناء كنست زوبعة ورقة الإجازة التي مرت أمام ناظري ثم ابتعدت رويدا رويدا حتى اختفت،حتى أن ناشطة شابة فارعة القوام تنتمي لإحدى منظمات الصحة في بلادنا، كانت مارة بالصدفة بسيارتها فاقتحمت الجمع معرفة بصفتها وقالت إنها تعرفني رغم أني لا أعرفها ولم أشاهدها من قبل.
جثت المخلوقة تقدم اللازم لحالتي، فباغتني عطرها الشهي حتى كاد أن ينعشني، حين تدلى معطفها الأبيض على وجهي،
ازدادت الزحمة من حولي فصاح أحدهم: تفرقوا، تفرقوا خلونا نسعفه، وآخر يتفقدني ويجس نبضي ليتأكد من اني مازلت على قيد الحياة، هل قلت على قيد الحياة؟! 
نعم، يا لهذه العبارة! 
كنا نرددها كيفما اتفق ولانعي مضمونها لاأدري من أتى بها ، -:وهل الحياة بمثابة قيد لنا؟
: نعم هي كذلك، إذا نحن سلمنا وقبلنا بذلك، وشعرت بيد تمتد بخفة إلى جيبي وتسحب هاتفي الجوال، لم أكترث فلم يعد يهمني ولم أعد بحاجته.
بل أنا لا أستطيع الحراك ولا النطق،أنا ميت أصلا ! 
غفوت قليلا ووجدتني في سرير أبيض نظيف، والبياض والأجهزة تحيطني من كل جانب، حتى خط نبضات القلب البياني على الشاشة كان مستقيما ،ويخلو من أي تعرجات ويصدر صوتا مزعجا أشبه بالنواح، أرى كل من حولي، لكني لاأستطيع التحدث معهم. مرر الطبيب كفه برقة على جفوني لإغماضهما، وسجاني، وعظم الأجر لأهلي، بعد ما تأكد من موتي، هذا المشهد التقليدي الذي رأيته عشرات المرات في الأفلام، ها أنا أعيشه اللحظة.
تعالى النواح، وهذا ما أفزعني في مهجعي، وتداعت خيالات وهالات ينسجها النور وترانيم تشبه الموسيقى بجرس خفيف في مخيلتي، وبدأت أغيب عن إداركي المؤقت وأتعمق بالغياب،
الغياب! نعم الغياب، هذه اللفظة التي كنا نرددها في الحياة الدنيا، في أشعارنا وقصصنا ورواياتنا.
لقد اختلف معناها ومضمونها اليوم  وعاد إلى أصله، سمعت الطبيب وهو يقول: ستستلمون الجثة بعد إكمال الإجراءات، آآآه هنا تغير المسمى، وسقط الاسم خاصتي وأصبح اسمي هو الجثة، الجثة نعم ومازالت الورق وإجراءاتها تتبعني.
الأمن كان حاضرا فقد سمعتهم ينادون بعضهم برتبهم وعرفت أن الجاني صاحب (الشاص) قد سلم نفسه،دارت مفاوضات حول توافق وتسوية لقبول الدية يبدو أنه من أبناء الذوات.. 
الدية! نعم الدية! وجثتي لم تبرد بعد! يالهم من أوغاد، لم يحترموا مشاعر أسرتي، على الرغم من أنني قد سامحته في سري، لقاء إرسالي إلى هذا العالم الطاهر النقي والمهيب، العالم الحلم.
إييه لقد خدعنا رجال الدين بتلفيقهم لأحاديث لا تمت لرسول الله بصلة، وصححوا ضعيفها مادام سيخدم أسيادهم ويبقي على مصالحهم، صحيح أني تمتعت كثيرا بهذه الدنيا الفانية، لكني بالمقابل ندمت، لأن ثمة أشياء لم أفعلها.
كان هؤلاء العبيد المدلسون ذوو اللحى، يحثوننا على الزهد والتقشف وأهمية ربط الحجارة على البطون، وهم يتمتعون بما لذ وطاب على موائدهم من أسيادهم، وهو ذاته الأمر الذي كان يفعله العبد السياسي في حث شعبه على الموت من أجل الوطن وكرامته ووو.. إلى آخر الديباجة.. لبيقى سيادته جاثما على كرسيه كالبقرة المقدسة، والنتيجة فقدت كثيرٌ من الأسر شبابها ومعيليها.
لكن.. لكن بعيدا عن هذا كله كانت ثمة لحظة مفصلية وربما ذهبية، كنت اتمنى اقتناصها بفارق الصبر في الحياة الدنيا، لكم تمنيت أن يمهلني ملاك الموت بعد موتي لأتأملني من ذلك العالم الذي لايشبهه شبيه أويدانيه ضد، من وراء العدم ومن فوق السحاب، لأطل على خلاصة خاطفة لمسيرة حياتي، وأطلق ضحكة ساخرة مدوية، أسخر فيها من ذاتي ومن أؤلاك الأوغاد ،تجاه ماكنت أراه صعبا، أو مستحيلا أوتابوها،  وما يؤرق حياتي حينها، أو حين لا يحالفني الحظ في إتمام أمر ما، فيسرق مني هذا الشعور لحظة كان يجب أن أحياها كما يجب. وهأنذا الآن أفعل. نعم أفعل هذا من خلف السحاب.