مآلات اللحظة "اللقطة" وتعاضدات استعاراتها الحسية والمعنوية في نص " لحظة ذهبية " للروائي والناقد السوري محمد فتحي المقداد

صدى الحقيقة : بسام الحروري
في ثنايا مساحات نصوص القص، يبحث القارئ الحصيف دوما، عن لقطة فنية مشرقة، وهي لحظة تجلي، أكثر منها لقطة او لحظة إشراقة اوتنوير ، تنفتح عن حبكة أو أزمة ما، وليس بالضرورة أن تتربع هذه اللحظة في خاتمة النص، بما تحمله من دلالات إيحائية روحية أو حسية.
 فقد نجدها في أول خيط القص، او في وسطه، أو في أي جزئية منه ،فيما تتعاضد مع لحظة أخرى، لتعززها وتسهم في ترابط هذا المعنى أو تلك الدلالة، فتتقاطع مع أختها في نقاط مشتركة تعبر عن حالة معينة، تتجسد في موضع ما من النص، بصورة حسية جمالية  زإيحائية ،في سياق رمزي بلاغي مستعار ، بالمقابل نجد لقطة أخرى معنوية تؤسس لأنساق معينة تلامس شغاف الروح والوجدان فتتماهى مع أختها وتتناص معها لتكتمل دلالة النص بغض النظر عن نوعية هذا التجلي  .
وهنا تترابط تلك اللقطات بسياق تكاملي كما أسلفت فتتعاضد جزئيات الموقف والحدث ، وهو ما يرومه الكاتب و يريده لنصه
والصورة "اللقطة" أداة جمالية ولحظة بصرية مهمة، يستعيض بها الكاتب في التعبير عن موقف ما ،حتى لايسهب في الشرح ووصف المشاعر، إزاء هذا الموقف في لحظة وحالة وجدانية عابرة مكثفة الدلالة.
لكنها تستحق أن تروى وتوثق في صورة مماثلة أو قريبة الشبه من المشبه به، كأن تكون لحظة زمنية تأملية في ظواهر الطبيعة وصورها، إذ تختزل الحالة و مشاعر اللحظة التي تنتاب البطل او شخوص النص عامة ، الأمر الذي يتطلب حرفية وذكاء يحسب لكاتب النص أو عليه.
والنص الذي نحن بصدده  من جنس القصة القصيرة يفتتح لقطته الأولى بكلمة(حالة)، والحالة بنت اللحظة، تؤطر بفوتوغرافيا الشعور والإحساس ، وإذن فهي حالة عارضة تترجمها الجوارح والملامح، فحالة النشوة والحبور حين تغشت بطل القصة، نتيجة فوزه بمنحة أدبية، منحت مطلع النص عند استهلاله، حيوية وديناميكية مهدت للمرحلة القادمة، ومابنيت عليه تراتبية وتداعيات المشاهد القادمة، التي جسدتها اللقطات، حين بدت صورها تكبر رويدا رويدا ، وهو ما يوسع مسؤولية النجاح والشهرة، لدى البطل التي ضمنها الكاتب نصه ،عبر فلاشات متداعية، تتعاضد، لتكمل في مشهدها الفسيفسائي، الرؤية التي يخلص عبرها الكاتب في لقطاته هذه إلى الهدف العام، وقد رص هذه الفلاشات بشكل موازييكي تراتبي وبلاغي بديع ، حيث بدا فيها من الجزء إلى الكل  مثل :
حالة من النشوة والحبور تغشته /على وقع خبر فوزه /منحة المشروع القومي للإبداع / سيتفرغ لعمله الأدبي الأهم في حياته على الإطلاق /أحلام النجاح والشهرة على مستوى القطر .
 ثم استعرض الكاتب بالمقابل لقطات المنغصات التي تؤرق البطل وتحرمه النوم طوال ليلة كاملة، كمفارقة رصدها الكاتب للموازنة في حياة البطل وعلى شاكلة منلوج وصراع داخلي ناعم  مثل  : 
تنبيهات لفت النظر /الإنذارات القديمة/ النوم الذي غادره كامل ساعات ليلته / قراره الأخير/. معرجا على تعامل مديره الفظ في العمل وعقليته، مثل : 
 مديري عقليته جامدة،غير قابلة للتطور/ عصبي المزاج /. جاد وحرفي/ يلقي أوامره على الموظفين شبيهة بالعسكرية/.
إلى جانب لقطة ظهور خيال مديره على صفحة الماء وهي إشارة إلى انه اقتحم عليه خلوته الأثيرة مثل : (بينما يتراءى له وجه المدير بملامحه الصارمة).
اما في المقطع التالي فقد تعاضدت الكثير من لقطات اللحظة التي رمز بها الكاتب إلى مآل معين من خلال توظيف استعاراتها البلاغية الحسية والمعنوية/ اللحظية كترميزات أبرق بها إلى ذهنية القارئ لتصب جميعها في صلب المعنى وكتمهيد إشاري مبطن لما سيحدث لاحقا.
فمثلا "اللحظة الذهبية" التي تضمنها عنوان النص تعاضدت بلقطة أخرى وهي محاولة البطل في لحظة الغروب ملاحقة قرص الشمس الذهبي بيده وهو في قمة النشوة لتحقيق حلمه الهارب منه إلى الأفق قبل أن يؤول إلى غياب، ثم تكاملت معه لحظة أخرى حين هوى واهتزت قدماه ولم يفلح باستعادة توازنه  .
وكان الكاتب أراد أن يقول لنا أن القدر لن يمهله إلى تحقيق حلمه حتى يرى النور ،حيث انه كان يقف على حافة جرف،حين اهتز وفقد توازنه،أفلت منه قرص الشمس الذهبي/ الحلم  وغاب،  وهو ترميز للهاوية والنهاية والسقوط ،كما أن ترديد البطل للأغنية تعاضدت هي الأخرى مع تتابع الصور، تشترك في اللحظة الذهبية حيث أخذت الشمس النصيب الوافر في الصورة البلاغية، سواء في التشبيه أو المشبه به، وهي الحالة الذهبية سواء كانت ماثلة للعيان أم لحظة شعورية من خلال ترداده لمقطع الأغنية ( لكتب اسمك يا بلادي ..ع الشمس اللي مابتغيب).
إلى جانب إصراره على كتابتها على رمال الشاطئ التي سيمحوها الموج/ إلى جانب لقطة تكسر الموج على الصخور/ وكذلك الامل من الانتهاء من إكمال الرواية قبل فصل الخريف/ فلقطة تكسر الامواج، تشي بتكسر أمل ما أو ضياعه وهو الرواية،كذلك صورة الخريف توحي بالصفرة وموت الأوراق وسقوطها،وهو مايتقاطع مع مصير الشمس ولونها ، الصفرة والغياب ،وكلها مآلات تتواتر لتشي بالنهاية التي سيلقاها البطل، النهاية المأساوية من خلال الانتحار ، والأسوأ من ذلك ضياع منجزه الحلم وذهابه إلى غيره، وهو المدقق اللغوي الذي اشرت له سلفا.
فكانت لحظة سطو المدقق على الرواية لحظة ذهبية نزقة بالنسبة له، وقد لاحظنا كيف انه قبل أن يستولي ذلك المدقق على المنجز ويثبت اسمه على الزاوية بالخط العريض، سبقت هذه الفعلة مراسيم أو طقوس خاصة بهذا المدقق نسجها ووثقتها كاتب النص بحرفية، وهي لحظات ولقطات ذات دلالة، عنت الكثير للمدقق ابانت عن نواياه مثل :  ( من فوره أزاح الستائر بنزق ، وسمح للهواء والضوء باستباحة المكان ، فاستطاع استعراض شريط حياة الروائي خلال دقيقة، وملأ رئتيه بالأوكسجين، وطرد ثاني أوكسيد الكربون من صدره بفرح وثبت اسمه على الزاوية بالخط العريض.).
 وإذن فهذه اللقطات والفلاشات المتسارعة المكثفة الدلالة قال من خلالها المؤلف الكثير وبأسلوب فني وسلس موثقا اللحظة بمداد الرمزية.
إنها تغيرات وتبدلات اللحظة وحلول شيء مكان آخر وانزياحه من مكانه. فصورة إزاحة الستائر بنزق، والسماح للهواء بالدخول، بالمقابل تعاضدها مع لقطة أخرى قريبة منها وهي:  ( وملأ رئتيه بالأوكسجين ، وطرد ثاني أوكسيد الكربون من صدره بفرح ) بمعنى (التجديد والتغيير) إنها تموضع حالة مكان آخرى .كنوع من الاستلاب الروحي، والمعنوي،الذي سيتبلور لاحقا إلى استلاب ملموس، استلاب عالم الأديب الراحل وخلوته التي لمحها المدقق في لحظة زمنية فاصلة بين نبأ النعي والسطو "خلوة في مقبرة" كصورة تمهد للرحيل وكخلوة أبدية في مثواه الأخير /القبر ،
ولتظل المقبرة بحسب الروائي المغربي محمد شكري في "الخبز الحافي" :أفضل مكانا للجلوس، إذ يصبح فيها الناس اقل إزعاجا لبعضهم البعض.
 ثم يصور الكاتب المشهد من خلال هذه اللقطات السردية : ( تأكد خبر موت الكاتب، قالوا: إنه انتحر " دمعتان حارتان سقطتا من عيني المدقق، وتلتهما أخريان مماثلتان، فأصبحت صفحة باهتة جدا، لم يبق الا أثرا من سواد  الحبر بلا معالم واضحة كقبر دارس..).
   بينما تطل صورة " القبر الدارس" من بين ثنايا الورق نتيجة الدمع الكاذب من عيني المدقق التي محت العنوان الذي اصبح اثرا بعد عين ، فكانت صورة أخرى لنعي آخر يتقاطع مع صورة النعي الحقيقي لذات الكاتب، لكنه هنا على الورق إنه نعي مجازي لمنجزه الذي نزعه المدقق عن جلده الحقيقي ونسبه زورا له، وماتلك الدمعات المزيفات، التي محت العنوان، إلا لقطة مماثلة لافتراس واغتصاب، ذلك المنجز الأدبي المتمثل في الرواية الوليدة،وهي أشبه بدمعات التمساح حين يذرفها وهو يلتهم فريسته، والتي بالمقابل لا تحتمل معان الحزن الحقيقي أو البكاء على الفريسة.
 ويالها من مفارقات ذكية تحسب للقاص المقداد، إنها التقاطات ذكية لماحة وماكرة هذه المفارقات .
ثم نأتي لقطة السطو على حظوة الأديب الراحل، ومكانته الأدبية لتعزز هذه اللحظة الذهبية وتبعاتها الحسية في حياة المدقق
وجاءت في السياق لقطة (استباحة المكان) التي يجب التوقف عندها ،ووضع أكثر من خط أحمر تحتها قبل مجاوزتها ، لتؤكد على حيثية سبق الاصرار والترصد فهي إستباحة للمكان/ المكانة/ الرواية / مكانة الاديب.
من قبل المدقق ، أضف إلى ذلك لقطة استعراض شريط حياة الرجل بدقيقة، هي في حقيقتها صورة أخرى من صور الاستلاب تتعاضد مع لقطة الاستلاب السابقة في طي هذا الشريط الذي يحوي عمرا بإنجازاته في دقيقة واحدة، وهي قليلة جدا ولاتفيه حقه، بينما الرجل عاشها بالطول والعرض ، كنوع من الغبن والظلم الذي الحقه به إلى جانب سرقة منجزه/ الرواية، ولكل على مستوى مساحات رقعة النص لحظته الذهبية التي وثقت بطريقة او بأخرى مابين بصر اللحظة وعين اللقطة واختلاف روحها ومعناها من شخص لآخر من ابطال النص فكما للفوز بمنجز او جائزة طعم الفرح  للسطو كذلك طعم النزق .
وإليكم النص : 
_________________
لحظةٌ ذهبيَّةٌ
(قصة قصيرة) 
بقلم. محمد فتحي المقداد
 حالة من النّشوة والحُبور تغَشَّتهُ، على وَقْع خبر فوزه بمنحة (المشروع القوميّ للإبداع)، وسيتفرَّغ لعمله الأدبيِّ الأهمِّ في حياته على الإطلاق، أحلام النّجاح والشُّهرة على مُستوى القُطر، والحُظوة عند مديره المُباشر، وستنتفخُ إضبارته الذاتيَّة بشهادات الشُّكر والثناء، لِتَطمُر تنبيهات لَفْت النَّظر، والإنذارات القديمة، وسينال رضاه بلا جِدالٍ، عندما راجع نفسه في المساء أثناء استعداده للنَّوم، الذي غادرهُ كامل ساعات ليلته حتَّى الصَّباح. قراره الأخير:
- "مديري عقليَّته جامدة غير قابلة للتطوُّر. عصبيّ المِزاج. حادٌّ وحَرْفيٌّ بتعامله معنا. يلقي أوامره على الموظفين شبيهة بالعسكريَّة. وعلينا جميعًا التنفيذ فقط. من الآن فصاعدًا لن أكترثَ له. مادام الوزيرُ قد وقَّع لي القرار. هذا يعني أنَّه عرف باسمي، وآمن بموهبتي لمَّا قرأ اِقْتراح التنسيب، وإذا قصدته؛ فلن يرفض لي طلبًا".
اجتماع ضخم عُقدَ في المَرْبَع السَّاحليِّ لجميع الذين قُبلوا لإنجاز المشروع على مدى العاميْن القادمَيْن. مساء، وبعد انتهاء الجلسة الأولى بساعات. قرَّر ثانية الاِنْفراد بنفسه بمكان مُتوارٍ بجوار البحر. لسانه لم يملَّ من إعادة الأُغنية، وكأنَّها علقت بلاصق بجزء حَيَويٍّ من فمه:
"لَكْتُبْ اسمك يا بلادي.. ع الشّمس إلِّلي ما بِتْغيبْ"
 أخيرًا. وقف على الشَّاطئ عند حافَّة جُرْفٍ عميقٍ. رَجْعُ صدى صوته يُصدِّعُ السُّكون، إلَّا من أصوات الأمواج  المُتكسِّرة على الصُّخور في الأسفل.
بإصرارٍ. يده  تُلاحق قُرص الشَّمس الذي يتباعد عنه بعنادٍ. 
هَوَى.  اِهتزّت قدماه، ولم يُفلِح باستعادة توازنه. مازال لسانُه يُعاند صوت البحر بترداد الأغنية، ويُصِرُّ على كتابتها على طين قاع البحر بخطّ الرُّقعة. بينما يتراءى له وجه المُدير بملامحه الصَّارمة، بنفسه لو كان يستطيعُ عِناقه، بينما اِنْتثرَ رَذاذُ تَفَّةٍ من فمه.
العملُ الروائيُّ الذي انتهى منه قبل عام قرّرت دار النَّشر طباعته. المُدقِّقُ اللَّغويُّ دائِبُ النّشاط بِهمَّةٍ واِقتدار، آمِلًا الانتهاء من رواية "خَلوةٌ في مِحْبَرة" قبل نهاية فصل الخريف. 
توقَّف طويلًا في رحاب العنوان مُنشغل الذِّهن، وبانتقاله إلى الصَّفحات التالية. تساءل مع نفسه:
- "كيف كتبها الروائيُّ..!  "خَلوةٌ في مَقْبرة" ؟، لا شكَّ بأنَّه كان يهذي سابحًا في ظلام الغُرفة. أستغربُ اِنْحرافَ السِّياق عن الخطِّ العامِّ للمقطع السَّابق واللَّاحق. سأُثبّتها "خَلوةٌ في مِحبَرة".
رنينُ الهاتفِ جاءهُ بخبرٍ من صاحب دار النَّشر: 
- "تأكَّدَ خبرُ موتِ الكاتب. قالوا: إنّه انتحر". 
دمعتان حارَّتان سقطتا من عيْنيِّ المُدقِّق، وتلتهما أُخريان مماثلتان؛ فأصبحت صفحة باهتةً جدًّا، لم يبقَ إلَّا أثرًا من سواد الحبر، بلا معالم واضحة، كقبرٍ دارِسٍ. وليُخرج الكاتب من مأزقه بحكمةٍ معقولةٍ. 
من فَوْره أزاح السَّتائر بِنَزَقٍ، وسمَحَ للهواء والضُّوء باِسْتباحة المكان؛ فاستطاعَ اِسْتعراض شريط حياة الروائيِّ خلال دقيقة، وملأ رِئتيْه بالأوكسجين، وطَرَدَ ثاني أوكسيد الكربون من صَدْره بفَرحٍ، وثبَّت اِسْمه على الرِّواية بالخطّ العريض. 
5/ 4/ 2023